ديفيد كاميرون: استراتيجيتنا لمواجهة التهديد من داعش
يقول رئيس الوزراء، في مقال نشرته صحيفة التلغراف، أن التطرّف السام الذي يجتاح العراق وسورية الآن يمسّنا جميعاً - ولم يعد لدينا خيار سوى التصدي له.
استقرار، وأمن، وراحة بال ينعم بها المرء حين يستطيع الحصول على وظيفة لائقة يكسب منها قوته لإعالة أهله في بلد يشعر أنه يسير نحو مستقبل جيد، بلد يعامل الناس بالعدل. هذا هو باختصار شديد ما يتطلع إليه الناس في بريطانيا - وهذا هو ما تكرس الحكومة التي أرأسها نفسَها لتحقيقه.
لا بد أن تكون مصلحة بريطانيا أولا - اقتصادنا وأمننا ومستقبلنا. وفي أعقاب ركود اقتصادي شديد تسبب بالكثير من الضرر، ومشاركتنا في صراعات طويلة وصعبة في العراق وأفغانستان، لا غرو أن الكثير من الناس يقولون لي عندما يروْن صور المآسي على شاشات تلفزيوناتهم: “نعم، لنساهم بإرسال المساعدات، ولكن دون أن نتدخّل أكثر من ذلك.”
أتفق معهم على أن علينا أنْ نتجنب إرسال جيوش للقتال أو الاحتلال. ولكن لا مفر من إدراك أن المستقبل الأكثر إشراقا الذي نتوق إليه يتطلب خطة طويلة الأجل لأمننا ولاقتصادنا أيضا. والأمن الحقيقي لن يتحقق إلا استخدمنا كل مواردنا - من مساعدات ودبلوماسية وحنكة عسكرية - كي نساعد في أن يكون العالم أكثر استقرارا. واليوم، وبهذا الترابط المباشر بين الدول جميعها، ليس بإمكاننا أن نتغاضى عما يحدث ونفترض أن تغاضينا هذا لن يكلفنا شيئا.
إن إقامة خلافة متطرفة في قلب العراق وتمتد لتشمل سورية ليست مشكلة تبعد كثيرا عن حدودنا. كما أنها ليست مشكلة تستدعي وضعها في إطار حرب وقعت قبل 10 سنوات. بل إن ما يشغلنا هو ما يجري هنا والآن. ذلك أننا إذا لم نتصرّف ونصد هجمة هذه الحركة الإرهابية التي تعتبر استثنائية بخطورتها، فإنها سوف تزداد قوة إلى أن تتمكن من استهدافنا في شوارع بريطانيا. ولقد بتنا نعرف الآن ما لديها من نوايا شرّيرة قاتلة. وقد شهدت القارة الأوروبية فعلا أول أعمال إرهابية مستوحاة من إرهابيي داعش.
إن أولويتنا كانت بالطبع مواجهة الأزمة الإنسانية الحادة في العراق. ومن حقّنا أن نفخر بالدور الذي اضطلعت به قواتنا المسلحة الباسلة وموظفو الإغاثة في نطاق الجهود الدولية. وقد جازف مواطنون بريطانيون بحياتهم لإيصال 80 طناً من الإمدادات الحيوية لليزيديين المحاصرين على جبل سنجار. ومن الحري بنا استغلال برنامجنا الإغاثي للاستجابة سريعا لأوضاع كهذه: وقد قدمت بريطانيا 13 مليون جنيه استرليني لدعم جهود الإغاثة. كما أننا ساهمنا في وضع خطة دولية مفصلة للإنقاذ وما زلنا على استعداد للاستجابة بأي شكل للتحديات المستمرة حاليا في دهوك وما حولها، حيث ازداد عدد السكان بنسبة 50% إثر نزوح أكثر من 450,000 شخص إليها.
إلا أن الاستجابة الإنسانية وحدها ليست بكافية. بل إننا نحتاج أيضا إلى تحرّك سياسي ودبلوماسي وأمني أوسع. ولهذا لا بد لنا أن نفهم الطبيعة الحقَّةَ للخطر الذي نواجهه. علينا أن نكون واضحين: فهذه ليست ما يُسمّى “الحرب على الإرهاب”، ولا هي بحرب أديان. بل إنها صراع لأجل القيم الكريمة والتسامح والاعتدال في عالمنا الحديث. إنها معركة ضد عقيدة سامة تشجبها كل الديانات وكبار رجال الدين، مسيحيين كانوا أو يهوداً أو مسلمين.
هناك بالطبع صراع بين الشيعة والسنَّة، ولكن من الخطأ أن نضع ما يجري في هذا الإطار. بل إن ما نشهده هو في الواقع معركة بين الإسلام من ناحية وبين المتطرِّفين الساعين إلى سوء استغلال الإسلام من الناحية الأخرى. وهؤلاء المتطرفون، الذين يمولهم عادة متعصبون يعيشون بعيداً عن ساحات المعارك، يحرِّفون الدين الإسلامي ويستغلونه لتبرير فكرهم الملتوي والبربري - وهم لا يفعلون ذلك في العراق وسورية وحسب، بل في أنحاء العالم كله - من بوكو حرام والشباب وحتى طالبان والقاعدة.
ومن هنا فإن إزالة الخطر لا يمكن أن تتم بالضربات الجوية وحدها. بل لا بد من نهج صارم وذكي وصبور وطويل الأجل يمكن به إلحاق الهزيمة بالتهديد الإرهابي في معاقله.
أولا، لا مناص من رد أمني حازم، سواء كان ذلك عملا عسكريا لمطاردة الإرهابيين، أو تعاونا دوليا في مجال الاستخبارات ومكافحة الإرهاب، أو عملا لا هوادة فيه ضد الإرهابيين هنا. وقد اتفقنا يوم الجمعة مع شركائنا الأوروبيين على تقديم معداتٍ للقوات الكردية مباشرة، وندرس حاليا ما قد نقدمه - من سترات واقية من الرصاص وحتى معدات خاصة للتعامل مع المتفجرات. كما أننا توصلنا لصدور قرار من مجلس الأمن الدولي لمنع تدفق الأموال على إرهابيي داعش، وفرض عقوبات على الساعين لتجنيد أفراد للالتحاق بهم، وتشجيع الدول على فعل كل ما تستطيع فعله لمنع المقاتلين الأجانب من الالتحاق بركب التطرّف.
وهنا في بريطانيا استحدثنا مؤخرا صلاحيات أشد، من خلال قانون الهجرة، لسحب جنسية المتجنسين البريطانيين إذا كان هناك شك بتورطهم في نشاطات إرهابية. وحذفنا 28,000 مادة ذات علاقة بالإرهاب من الإنترنت، من بينها 46 فيديو مرتبط بإرهابيي داعش. كما أنني بحثت رد الشرطة على هذا الخطر المتزايد من التطرف مع مفوض شرطة العاصمة سير بيرنارد هوغان- هاو. والموقف واضح. كل من يسير حاملاً أعلام داعش أو يحاول تجنيد الناس لغاياتهم الإرهابية سيُقبض عليه وتُصادر المواد التي بحوزته. إننا شعب متسامح، ولكن لن نسمح بأن يكون هذا التسامح مدخلاً لهذا النوع من التطرف السام في بلادنا.
وإلى جانب رد أمني صارم، لا بد من رد سياسي ذكي. نحن نعلم أن المنظمات الإرهابية تزدهر حيثما كان هناك عدم استقرار سياسي ومؤسسات سياسية ضعيفة أو لا تستطيع أداء مهامها كما يجب. لذا علينا أن ندعم بناء لبنات الديموقراطية - سيادة القانون واستقلال القضاء وحقوق الأقليات وحرية الإعلام والتجمع، إلى جانب مكان مناسب للجيش في المجتمع. ولا يمكن للغرب فرض أي من هذه الأمور. بل لا بد لكل بلد أن يفعل ذلك بطريقته. غير أن بإمكاننا، بل يجب علينا، أن نلعب دوراً قيماً في دعم خطواتهم بهذا الاتجاه.
لقد استغل مسلحو داعش غياب حكومة موحدة ممثلة للجميع في بغداد. وبالتالي فإننا نرحب كل ترحيب بفرصة بداية جديدة مع رئيس الوزراء المعيَّن د. حيدر العبادي. وقد تحدثت معه في وقت سابق من الأسبوع وأكدت له أننا ندعم أي محاولة لتشكيل حكومة ممثلة للجميع بحق وتستطيع توحيد جميع الطوائف العراقية - سنة وشيعة وأكراد - لمواجهة العدو المشترك، تنظيم داعش الذي يشكل خطراً على أسلوب حياتهم جميعا.
ولسوف يلتف المجتمع الدولي من حول هذه الحكومة الجديدة. غير أن لجيران العراق في المنطقة أهميتهم الكبيرة أيضاً. لذلك يجب علينا أن ننسق مع دول مثل المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة ومصر وتركيا للتصدي لهذه القوى المتطرفة، وربما مع إيران أيضا - وبهذا تُتاح لها فرصة اغتنام هذه اللحظة لتشارك المجتمع الدولي في مواجهة هذا الخطر المشترك. إنني أريد لبريطانيا أن تلعب دوراً رائداً في هذه الجهود الدبلوماسية. وعليه سنعيّن ممثلا خاصا لدى حكومة إقليم كردستان، وسننتهز فرصة انعقاد قمة حلف الأطلسي في ويلز، وانعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لحشد التأييد في كل أرجاء المجتمع الدولي.
وأخيرا، ومع اتخاذنا موقفاً صارما وذكيا، فإن علينا أن نتحلى بالصبر وقوة الإرادة. إننا الآن في غمرة صراع أجيالٍ ضد عقائد سامة ومتطرفة، وأظن أننا سنظل نكافحها حتى نهاية حياتي السياسية. ونواجه في إرهابيي داعش خطراً جديداً غرضه واحد يتابعونه بكل عزم ودون تردد سعيا لتحقيق أهدافهم. فهم لا يسيطرون على آلاف العقول وحسب، بل على آلاف الأميال المربعة من الأراضي، حيث ألغوا جزءا كبيرا من الحدود بين العراق وسورية لإقامة ما يسمونه خلافتهم. وهم لا يخفون أهدافهم التوسعيّة. بل إنهم وضعوا اليوم البلدة القديمة في حلب نُصب أعينهم. كما يتبجحون بمخططاتهم بالنسبة للأردن ولبنان، ووصولا إلى الحدود التركية. وإذا نجحوا فسنجد أنفسنا في مواجهة دولة إرهابية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وحدود دولة عضو في حلف شمال الأطلسي.
إنه خطر جلي على أوروبا وعلى أمننا. إنه تحدٍّ جسيم. ولكنه ليس بالخطر الذي لا يُقهر طالما بقينا مستعدين وقادرين على استجماع الإرادة السياسية للدفاع عن قيمنا وأسلوب حياتنا بنفس القدر من التصميم والشجاعة والحزم الذي واجهنا به الخطر من قبل في تاريخنا. إن الخطر كبير لهذه الدرجة: وعليه فليس أمامنا من خيار سوى التصدي له.